لحظة وداع:
لم أدرك يوما أني سأشتاق الى لمسات يدها و لم أدرك أيضا أني سأحن الى صوتها الدافيء,
كنت أراها مستلقية على فراش المرض مدركا حالتها ولكني متيقن أنها موجودة, فبرغم حزني
عليها كنت أصطنع البسمة و أداعبها كما في السابق ولكن ما كان يحزنني أكثر هي تلك الضحكة أو البسمة المختلطة بالالم فعندما كانت تتوجع كان قلبي يتمزق الا أن عجزي كسر عزيمتي ولم يبقى لي الا التظاهر بأنه لا يوجد شيء, ما عساي أفعل وقد... عجز أمهر الأطباء عن ذلك, أحيانا ينتابني شعور أني لو درست الطب بدلا من الهندسة لتمكنت من فعل شيء, لعلي خففت عنها بعضا من معاناتها أو ربما استطعت أن أتوصل الى علاج ما, ولكن ما باليد حيلة فبمجرد أن أصطدم بالواقع أجد نفسي عاجزا من جديد و برغم ذلك لم تساورني فكرة رحيلها حتى ذلك اليوم حين اشتد عليها المرض وأعدناها الى منزلها و مسقط رأسها لعلها تجد الراحة, وكانت آخر كلمة نطقت بها هي "صح" مخاطبة بها ابنتها بنبرة ملئها الفجأة و الفرح حين أخبرتها أننا في طريق العودة الى الديار ولم أعهدها الا وهي تلك المرأة الصبورة الكتومة التي تقابل الاساءة بالاحسان و التي لم تترك فرضا الا و أقامته حتى الذي عجز عنه الأصحاء ألا و هو قيام الليل و سجدات الضحى لم تتخلى عنهم حتى وهي على فراش المرض, فعندما كنت أمسكها بين ذراعي منتظرا كلمة أو نظرة منها رحت أتصفح ذكرياتي معها ولحظات الضحك و الحزن........وأقول في نفسي: لعلي قصرت في حقها مع أن الجميع يقول أنني نعم الولد الصالح و بالرغم من ذلك لم أكن راض عن نفسي مئة بالمئة, لعلي يوما جرحت مشاعرها أو صرخت في وجهها الدائم البسمة, و ما كان يواسيني أنها كانت تناديني دائما "ابني العزيز", فلم أكن أرتاح الا ورأسي فوق حجرها ويدها تداعب شعري ولم أتخيل يوما أن تلك اليد ستعجز يوما عن الحراك و تنقلب الصورة و يصير رأسها على حجري و يدي تداعب شعرها الابيض المحنى, فصرت أناديها "أمي...أمي" لعلها تسمعني أو تجيب...مع محاولاتي اليائسة الا أني لم أفقد الأمل بأنها سترد علي و تناديني باسمي وتبتسم لي, فرحت أكلمها كأنها تسمعني و أخفف عنها بأنها ستشفى قريبا وأنا أستمع الى أناتها المتواصلة, الى أن توقفت وساد الصمت ودخلت في حيرة متسائلا مالذي يجري؟ لماذا سكتت أمي؟ هل زال عنها الألم يا ترى؟ هل بدأت تتماثل للشفاء؟ ورحت أطرح كل تلك الأسئلة الاجابية وأبى عقلي أن يتقبل الواقع الا أن سمعت صوت عمتي تناديني ابتعد يا بني فقد حانت اللحظة, فقلت لها: "أية لحظة", فقالت بصوت حزين و كلمات متثاقلة: "انها لحظة النهاية يا بني فنادي على اخوتك", يااااااالله...................لم أستوعب ما يحدث فقلت في قلبي ما أدراها هي بتلك اللحظة, و مع ذلك كنت أطيعها وناديت اخوتي وأنا غير مصدق, أمسكت برأس أمي وأنا أناديها لعلها تسمعني فمرت بذهني أفكار أنانية وهي أن تبقى مريضة و لكن لا ترحل رافضا عدم رؤيتها ثانية أو عدم سماع صوتها الحنون و مناداتها "كحلوشتي" و رحت اتمعن جسدها الضعيف و أتأمل كل تقاطيعها خشية أن أنسى جزأ منه, و عندما رأيت فمها يفتح ثم يغلق كأنها تريد قول شيء ما ولا تستطيع فرحت أناديها علي أساعدها على النطق فأسكتني ثانية ذلك الصوت و تلك الكلمات المتثاقلة الحزينة "أدعوا لها بالرحمة يا بني فقد رحلت عنى", فأمسكت برأسي غير مصدق لما يحدث و رحت أقبلها وأخاطبها و أناديها" أمي....أمي....هل تسمعينني اني هنا ابنك " ولكن دون جدوى فقد رحلت العزيزة الغالية, و دخلت في دوامة و خانتني دموعي لأني لم ارد البكاء و لكن لم أستطع أن اتوقف أيضا.......ماذا يحدث؟ أنا لا أفهم شيء كل شي يصير لا ارادي, هل رحلت حقا؟ هل غابت عني لمساتها و نصائحها و بركتها؟ لم أدري ماذا يكون مصيري بعدها و كأن حياة أخرى التي سأحياها فصرت أخشى من المستقبل بدونها, فلم يعد لي هدف أو غاية فكل ما كنت افعله كان لأجلها, فلمن أفعله الأن؟ نعم رحلت...وتركتني في هذه الحياة الغريبة عني و كأني عدت الى نقطة الصفر و كأنها البداية من جديد و ما أصعب البداية بدون ناصح أو دليل, فقد كانت ناصحي و دليلي و بوصلتي في هذه الدنيا, رحلت دون وداع...رحلت دون أ أستطيع حجها......رحلت أمي ...نعم رحلت أمي